خ menu auto_mode + font_download -
# السيئات الجارية وزرها وآثارها – خطبة الجمعة 20-3-1447هـ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحَاطَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَحِلْمًا، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ، وَيُدَبِّرُ الأَفْلاكَ والأَكْوَانَ، تَجْرِي الأُمُورُ بِقُدْرَتِهِ، وَتَخْضَعُ لأَمْرِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَتَنْطِقُ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ أجمعين أمّا بعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ مَن اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَمَنْ حَفِظَ حُدُودَهُ حَفِظَهُ وَرَعَاهُ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) الطلاق: [4]. أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: اعْلَمُوا- رَعَاكُمُ اللهُ- أَنَّ الْخَلائِقَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ يُبْعَثُونَ، وَعَلَى أَعْمَالِهِمْ يُحَاسَبُونَ، وَأَنَّ أَعْمَالهُمْ مَسْطُورَةٌ في كتابٍ مبينٍ، لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، حَتَّى مَثَاقِيلَ الذَّرِّ، قَالَ تَعَالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة: [7-8]. أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ أَنْ جَعَلَ لَهُمْ أُجُورًا جَارِيَةً وَحَسَنَاتٍ سَارِيَةً، يَدُومُ ثَوَابُهَا ولا يَنْقَطِعُ أَثَرُهَا قَالَ ﷺ: (إِذا ماتَ الإنْسانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلّا مِن ثَلاثَةٍ: إِلّا مِن صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صالِحٍ يَدْعُو له) أخرجه مسلم (1631). عِبَادَ اللهِ: وَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَبْدَ لا يُحَاسَبُ عَلَى مَا قَدَّمَتْهُ يَدَاهُ فِي دُنْيَاهُ وَحَالَ حَيَاتِهِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا يُحَاسَبُ أَيْضًا عَلَى مَا خَلَّفَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ مِنَ الآَثَارِ وَالأَوْزَارِ وَمَا نَشَأَ عَنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) يس: [12] . عِبَادَ اللهِ: وَكَمَا أَنَّ استمرارَ حسنات العبدِ بعدَ وفاتِهِ مُوجِبٌ للسعادةِ والفلاحِ، ودليلٌ على التقوى والصَّلاحِ، فَإِنَّ بَقَاءَ آَثَامِهِ، وَجَرَيَانَ أَوْزَارِهِ، مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاوَةِ والْخُسْرَانِ، وَأَمَارَاتِ الضَّلالِ وَالخُذْلانِ، قَالَ أَحَدُ السَّلَفِ: طُوبَى لمنْ مَاتَ وَمَاتَتْ سَيِّئَاتُهُ مَعَهُ. أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَإِنََّ أَخْطَرَ مَا يَقْترِفُهُ المرْءُ في حَيَاتِهِ مِنَ الذُّنُوب، تِلْكَ الذُّنُوبُ الَّتِي لا تَنْتَهِي بِمَوْتِهِ، ولا يَقْتَصِرُ ضَرَرُهَا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، بَلْ تَتَعَدَّاهُ لِغَيرِهِ، فَيَلْحَقُهُ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) العنكبوت: [13]. عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَفْطِنَ لِتِلْكَ الْقَضِيَّة، وَأَلا يَغْفَلَ عَنْ هَذَا المعْنَى، فَإِنَّ الذَّنْبَ إِذَا تَابَ الْعَبْدُ مِنْهُ، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ، وَعَفَا عَنْهُ، وَرُبَّمَا أَبْدَلَهُ بِهِ أَجْرًا وخيرًا، وَلَكِنَّ الْفَاجِعَةَ الْحَقِيقِيَّةَ، والطَّامَّةَ وَالْبَلِيَّةَ، في الذُّنُوبِ الَّتِي تَدُرُّ عَلَى صَاحِبِهَا أَوْزَارًا وَهُوَ في قَبْرِهِ، لا سَبِيلَ لِلْخَلاصِ مِنْهَا، ولا يَعْلَمُ مَتَى تَنْتَهِي، قالَ ﷺ: (مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا، ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عليه مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن آثامِهِمْ شيئًا) أخرجه مسلم (2647) . أيها المؤمنون: ولِلسَّيِّئَاتِ الْجَارِيَةِ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: أَولًا: حُقُوقُ الْعِبَادِ وَالْبِلادِ الَّتِي لا تَكْفِي مَعَهَا التَّوْبَة، بَلْ يَجِبُ رَدُّهَا، واسْتِحْلال أَصْحَابها، فَمَنْ اقْتَطَعَ أَرْضًا وَلَوْ شِبرًا، أَوِ اعْتَدَى عَلَى حَقٍّ، أَوْ غَصَبَ مَالًا، أَوْ سَرَقَ مَتاعًا، فَإِنَّ هَذَا الْغَلُول يَظَلُّ عَلَى عَاتِقِ صَاحِبِهِ، يَأْتِي بِهِ يَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالى: (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) آل عمران: [161]. ثَانِيًا: وَمِنْ صُوَرِ السَّيِّئَاتِ الْجَارِيَةِ: الابْتِدَاعُ فِي دِينِ اللهِ، ومَنْ قَالَ فِي الدِّينِ مَقَالَةً لَيْسَ لَهُ بِهَا عِلْمٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ مِنَ الْكِتَابِ والسُّنَّةِ، أَوْ تَجَرَّأَ عَلَى الْفُتْيَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَإِنَّهُ يَتردَّى في قَوْلِهِ وَبِدْعَتِهِ، حَتَّى يَتْرُكَ النَّاسُ مَقَالَتَهُ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيّ أَوَّلَ مَنْ أَدْخَلَ الأَصْنَامَ لمكَّةَ، فَقَالَ عَنْهُ ﷺ: (رَأَيْتُ عَمْرَو بنَ عامِرِ بنِ لُحَيٍّ الخُزاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ في النّارِ وكانَ أوَّلَ مَن سَيَّبَ السَّوائِبَ) أخرجه البخاري (3521) ومسلم (2856). ثَالِثًا: وَمِنْ صُوَرِ السَّيِّئَاتِ الْجَارِيَةِ: التَّقْصِيرُ فِي تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ، والتَّفْرِيط في تَوْجِيهِهِمْ، وَإِرْشَادِهِمْ، والتَّهَاوُنُ فِي حَثِّهِمْ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَإِيقَاظِهِمْ لَهَا، وَتَرْبِيَتِهِمْ عَلَيْهَا، والْغَفْلَة عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَأَصْدِقَائِهِمْ، وأَيْنَ وَكَيْفَ يَقْضُونَ أَوْقَاتَهُمْ؟ وَتَرْكُهُمْ فَرِيسَةً سَائِغَةً لِلْفَرَاغِ الْقَاتِلِ، والْبَحْرِ الْهَائِجِ مِنَ الموَاقِعِ والمِنَصَّاتِ؛ لِيَكُونُوا بَعْدَ ذَلِكَ آَلَةً فِي الشَّرِّ، وَمَعَاوِلَ لِلْهَدْمِ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: (‌مُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَا تَدَعُوهُمْ هَمْلًا فَتَأْكُلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) تفسير ابن كثير: (5/240). وقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ:(فمَنْ أهملَ تعليمَ ولدِه ما ينفعُهُ، وتركَه سُدًى، فقد أساءَ إليه غايةَ الإساءةِ. تحفة المودود (229). رَابِعًا: وَمِنْ صُوَرِ السَّيِّئَاتِ الْجَارِيَةِ: مَنْ وَرَّثَ لأَبْنَائِهِ قَطِيعَةَ أَعْمَامِهِمْ، أَوْ أَخْوَالِهِمْ، أَوْ قَرَابَاتِهِمْ وَأَرْحَامِهِمْ، فَإِنَّ عَلَيْهِ وِزْرَ الْقَطِيعَةِ مَا دَامَتْ قَائِمَةً بَيْنَ الأَرْحَامِ. أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا النساء: [85].  بَارَكَ اللهُ لي ولكم فِي الْوَحْيَيْنِ، وَنَفَعَنَي وَإِيَّاكُم بِهَدْيِ خَيْرِ الثَّقَلَيْنِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ للهِ وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نَبِيّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أمَّا بَعْدُ فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: وَاعْلَمُوا أنَّ مِنَ الأَمْثِلَةِ المُعَاصِرَةِ لِلسَّيِّئَاتِ الْجَارِيَةِ: الْحِسَابَاتِ الفَاسِدَةِ علَى مَوَاقِعِ التَّوَاصل الاجْتِمَاعِيِّ، والَّتِي يُتَابِعُهَا جُمُوعٌ مِنَ النَّاسِ، يُقَدِّمُ أَصْحَابُهَا مُحْتَوَيَاتٍ تَمَسُّ الأَخْلاقَ، وَتَضُرُّ بِالْعَقَائِدِ وَتَنْشُرُ الرَّذَائِلَ، فَهَؤُلاءِ لا يَحْمِلُونَ وِزْرَ أَعْمَالِهِمْ فَحَسْب، بَلْ عَلَيْهِمْ كِفْلٌ مِنْ آَثَامِ مُتَابِعِيهِمْ ومُشَاهِدِيهِم، قَالَ تَعَالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) النحل: [25]. فالذَّنْبُ الَّذِي يَفْعَلُهُ التَّابِع، يَكُونُ لِكُلٍّ مِنَ التَّابِعِ والمتْبُوعِ نَصِيبٌ مِنْهُ، التَّابِعُ؛ لأَنَّهُ فَعَلَهُ وَبَاشَرَهُ، والمتْبُوع؛ لأَنَّهُ سَنَّهُ وَنَشَرَهُ، وَدَعَا إِلَيْهِ. وأَقُولُ لأصْحَابِ المِنَصَّاتِ والْحِسَابَاتِ عَلَى مَوَاقِعِ التَّوَاصلِ الاجْتِمَاعِيِّ، احْرِصُوا  أَنْ تَكُونُوا رُؤُوسًا في الْخَيْرِ، هُدَاةً لِلْبِرِّ، وَسُبُلًا لِلْمَعْرُوفِ، يُتَابِعُكُمْ عَلَيْهِ جُمْهُورُكُم، ويَقْتَدُونَ بِكُمْ، واحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا رُؤُوسًا لَهُمْ في الشَّرِّ، وَدُعَاةً لِلضَّلالَةِ، ولا تَغْتَرُّوا بِكَثْرَةِ المتَابِعِينَ، وَزِيَادَةِ المشَاهِدِين، واعْلَمُوا أَنَّكُمْ سَتَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُرَادَى، قَالَ رَبُّنَا: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الأنعام [94] . اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ، اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. الجمعة 20 /10 /1446هـ ### عدد الخطب 235