# رحم الله شيخنا ووالدنا سماحة المفتي العام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ.
-رحمه الله وغفر له-.
لقد اخْتصَّ اللهُ عزّ وجل مِنْ خلقِه مَنْ شَاءَ بفضله، فهداهمْ للإيمانِ، وجعلهم مسلمين، ثمَّ اختصَّ مِن سائرِ المؤمنينَ مَنْ أَحبَّ، فتفضَّل عليهم بالعِلْمِ، وآتاهم الكتاب والحكمة، وفقْههم في الدينِ، وفضَّلهم على سائرِ العالمين، فرَفَعهَم بالعلمِ، وزيَّنهم بالحلمِ، وهؤلاء هم العلماءُ الرَّبَّانيُّون، قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) المجادلة (11) وقال ﷺ: (مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ) أخرجه البخاري (71).
والعلماءُ مشاعلُ النور في غياهب الجهل، وحجابٌ في الفتن، وملاذ عند المحن، بهم يُعرفُ الحلالُ من الحرامِ، والحقُّ من الباطلِ، والنَّافعُ من الضَّارِ، فهم ورثةُ الأنبياءِ، وأهل الحكمة والبصيرة، قال تعالى: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ) الرعد: [16].
ومن محبة الله عز وجل لأهل العلم، أن ميَّزَهُم بالخشية، وخصهم بالتقوى، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر: [28].
والعلماء، تستغفر لهم الحيتان في ظلماتها، والملائكة في عليائها، والدواب في جحورها، طريقهم سبيل للجنة، وهُم غيظُ الشيطانِ، تحيَا بهم القلوبُ، وترقى بهم العقول، وتصفو بهم النفوس، وتُوأَدُ بهم الشرور، حياتُهم غنيمةٌ، وموتُهم مصيبةٌ، وهُم كالنجومِ في السماءِ يهتدي بهم مَنْ خلفهم.
ومصابُ الأمةِ بفقدِ العالمِ أمرٌ جلل، إذْ لا يفقدهُ أهلُه وذووه فَحَسبْ، بلْ يفقدُه الصغيرُ والكبيرُ، والذَّكرُ والأنثى، والقريبُ والبعيدُ؛ لأنَّ موتَ العلماءِ مصيبةٌ للعامة، وثلمة في جسد الأمة، قال ﷺ: (إِنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُه من الناسِ ولكن يقبِضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ فإذا لم يُبِقِ عالمًا اتخذ الناسُ رؤوسًا جهّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلُّوا وأضلُّوا) رواه ابن ماجة (46) وصححه الألباني.
قال مجاهد -رحمه الله- في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[الرعد: 41] قال: (هو موت العلماء).
وفي هذا اليوم الثلاثاء غرة ربيع الآخر لعام 1447هـ ودّعنا شيخنا وعالمنا، ووالدنا، سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية، فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ -رحمه الله- وغفر له.
ولشيخنا -رحمه الله- فضل خاص بعد الله عز وجل- على طلبة العلم، والدعاة، والعلماء، بما خلّفه من إرث علمي في الدعوة، والإفتاء، والتعليم، وما أضافه للمكتبة الإسلامية من مقالات، ولقاءات كثيرة، وفضل عام على جموع المسلمين بما قدَّمَهُ من جهودٍ عامَّة في الدعوة والإفتاء، وقضاء حوائج الناس، خلال نصف قرن من الزمان.
عرفت شيخنا ووالدنا -رحمه الله- عابدًا زاهدًا، وَرِعًا تقيًّا، سليم القلب، طيب النفس، شديد التمسك بالكتاب والسنة، ملازمًا للذِّكْرِ، حريصًا على اغتنام الوقت، عفّ اللسان، لينًا هينًا، بشوش الوجه، كثير البذل، نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحدًا.
وكما أن موت العلماء ثلمة، ومصيبة، فهو غيظٌ لأهل الباطل؛ لما يرون من تبجيل العلماء، وتوقيرهم، في الحياة، وبعد الممات، وكما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: (موعدهم الجنائز).
ومما يجبر القلب أن ينفطر حزنًا، والصدر أن يضيق ألماً، سيرة شيخنا -رحمه الله- وورعه، وعبادته، وخشيته، وما كان عليه من أخلاق فاضله، وتواضع جم، وما خلَّفَهُ من علم وأدب، وما قضاه من سنوات في خدمة المسلمين، ورعاية مصالحهم، وإجابة أسئلتهم، وما قدَّمه لهذه البلاد المباركة من مسيرة عطرة، وحياة حافلة، وجهود مضنية، يشهد بها القاصي والداني.
تولى شيخنا -رحمه الله- الإفتاء قرابة العقدين من الزمان، فكان على الجادة قولًا وعملًا، طريقة وفكرًا، حريصًا على الاتباع، بعيدًا كل البعد عن مسائل الخلاف، وأسباب الاختلاف.
وتميّز -رحمه الله- بالحكمة والكياسة، وسعة الصدر، والإنصاف، وكما كان منارة في الفقه والعلم، كان عَلَمًا في التواضع والحِلم، يجيب على أسئلة المستفتين بعلم وحكمة، ورزانة وفطنة، يفتيهم بما يناسب أحوالهم، ويراعي مصالحهم، لا يضجر من كثرة الأسئلة، يحلم على من أخطأ، ويصفح عن من يجهل، لا يتخلف عن تعليم الناس، وتوجيههم، حتى حال مرضه، واشتداد ألمه، كان يبذل نفسه للناس، تعليمًا وتوجيهًا، ونصحًا وتسديدًا
وكان -رحمه الله- حريصًا على متابعة التصانيف الجديدة، والمؤلفات الحديثة، فقد اتصل بي شيخنا -رفع الله قدره- ذات مرة، وكنت آنذاك، في المدينة المنورة أوائل ذي الحجة، وقال لي: إنا نقرأ في كتابك (وبل الغمامة) وقرأنا الأجزاء الأولى، والآن نقرؤ في كتاب الحج، وأثنى ثناءً عاطرًا، وطلبت منه التقديم له، فوعدني خيرًا، وقد أنجز ما وعد -رحمه الله- وقدّم للطبعة الثانية من (وبل الغمامة في شرح عمدة الفقه لابن قدامة).
وشيخنا -رحمه الله- تميّز بهمة عالية قلّ نظيرها، وعمل دؤوب، ومتابعة مستمرة لجميع فروع الإفتاء بالمملكة، فكان يتابع عملنا أولًا بأول، يوجه، ويسدد، أحيانًا بنفسه مباشرة، وأخرى عن طريق نائبه، معالي النائب، فضيلة الشيخ/ فهد العوّاد -حفظه الله-.
وليس المهم عند فقد العلماء أن تكثر المقالات والقصائد، وأن يظهر أثر فقدهم على المجتمع شكوى وتوجعًا، ولكن المهم هو تَرَسُّمُ الخُطَى، والسَّيْرُ على المنهَجِ، والسَّعْيُ في طلب العلم الشرعي، والاجتهادُ في تحصيله حتى نسدّ ما يُثْلَم من الدين؛ فقد كتب عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- إلى أبي بكر بن حزم عامله في المدينة: (انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَاكْتُبْهُ؛ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ ﷺ وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّ).
وإني أشد على أيدي طلبة العلم خاصة، والمسلمين عامة، أن ينهلوا من سير هؤلاء العلماء الربانيين، وأن يسلكوا سبيلهم، ويتحلوا بآدابهم، ويلزموا غرسهم، ويقتفوا آثارهم في العلم والأدب، ويقوموا بحقهم في الدعاء لهم، والترجمة عنهم، والتعريف بشمائلهم، وإبراز نتاجهم العلمي، وإخراج إرثهم الفقهي، ليكون عُدَّةً لطلاب العلم، والدعاة.
ولا يفوتني أن أرفع التعزية لمقام خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي عهده الأمين، وذوي الشيخ، ومحبيه، وسائر العلماء، وطلاب العلم في أنحاء العالم الإسلامي، في وفاة شيخنا ووالدنا فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ -رحمه الله وغفر له- سائلًا المولى سبحانه أن يجزي ولاة أمرنا الجزاء الأوفى على ما يقدمونه للإسلام والمسلمين، وعلى جدير عنايتهم بالعلم وأهله، وحفظ مكانة العلماء، وإنزالهم منازلهم.
جزى الله شيخنا سماحة الوالد الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، خير الجزاء عن ما قدم للإسلام وأهله، وجعل عِلمه وعَمله في موازين حسناته، ورفعة لدرجاته، وألحقنا به في الصالحين، وجمعنا به ووالدينا، وولاة أمرنا، ومشايخنا، وذرياتنا في جنات النعم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
### عدد الخطب 235